الراهبة المُربّية للنحل

التاريخ:

هذا المقال الصحفي المصور هو جزء من تحليل النوع الاجتماعي الذي أُجري في إطار برنامج الأمم المتحدة لتنمية القطاع الإنتاجي (PSDP). يتناول المقال الحياة اليومية والمسؤوليات العمليّة والرعائيّة للنساء العاملات في سلسلة قيمة الفواكه والخضروات في شمال لبنان.

بدعم من "هيئة الأمم المتحدة للمرأة"، استفادت ليا من تدريب حول المهارات الشخصيّة في إطار برنامج الأمم المتحدة لتنمية القطاع الإنتاجي، الممول من قبل الحكومة الكندية والمنفّذ من قبل ست وكالات تابعة للأمم المتحدة: منظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واليونيسيف، ومنظمة العمل الدولية، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة.

alt text
ليا، دير القديسة رفقا، 23.05.22. الصورة: غبريال فرنيني

 

"أنا أحبُّ مراقبة النحل - أحبُّ مدى انتظامهم والتزامهم، وكذلك رقصتهم الاهتزازية المحرِجة! تلعب كل نحلةٍ دوراً محدداً، ولكن مع ذلك، يعتمد كل دور فردي على التعاون الجماعي. هناك الكثير لنتعلّمه من ذلك."

الراهبة المُربّية للنحل

 

***

 

وصلتُ أنا وغاب إلى دير مار يوسف - ضريح القديسة رفقا في أواخر شهر أيار. كان يوماً دافئاً، تدفّق فيه ضوء ما بعد الظهيرة عبر أشجار اللّوز والزيتون. ظهرت الأخت ليا من خلف قناطر الدير وخرجت إلى الفناء بابتسامةٍ لطيفةٍ على وجهها ورداءها الأسود يتطاير خلفها. وراء بُنيتها الصغيرة ومشيتها السريعة، كان الدير كبيراً - قائماً على هضبةٍ في الأراضي الخضراء الفاتنة لجبل جربتا في منطقة البترون شمال لبنان.

 

أوّل ما أخبرتنا به الأخت ليا عن نفسها بينما كنّا نسير في فناء الدير الحجري الفسيح هو أنها تحب القيام بالأشياء بشكلٍ عكسي، وغالباً بالطريقة الصعبة أيضاً. ضحكت قائلة: "فكرة الاضطرار إلى الامتثال لمعايير مُحدّدة تزعجني." بالنظر إلى الوراء، أدركتُ الآن أن إحدى الأسباب التي دفعت بنا أنا وغاب على الفور إلى الإعجاب بذكاء الأخت ليا وسرعة البديهة لديها كان لأننا كُنّا قد كوَّنا فكرةً بأن الدير ربما كان مثالًا على النظام والامتثال لمعايير مُحدّدة. ولكن بالنسبة للأخت ليا، كان أن تصبح راهبة بمثابة نداء ودعوة لعيش حياة عديدة الاحتمالات. ولكن قرارها فاجأ الكثير من الأشخاص في حياتها ولقيَ مقاومةً عميقة. "ولكن عندما يعرف المرء،" هزّت كتفيها، "فإنه يعرف."

alt text
ليا، دير القديسة رفقا، 23.05.22. الصورة: غبريال فرنيني
alt text
ليا، دير القديسة رفقا، 23.05.22. الصورة: غبريال فرنيني

يُوفِّر لها الدير منزلاً منذ سنوات، فقد وجدت في داخله السّلام والنظام. عندما كنّا نتمشّى، ألقت كل من الراهبات الأخريات وكذلك السائقون والجيران التحية على الأخت ليا بأُلفة ومودّة، وغالباً ما كانت تردُّ عليهم بابتسامةٍ مشاكسةٍ أيضاً. تُعرف في الدير بأنها متعدّدة المواهب والمهارات. تُشرف الأخت ليا عن الشؤون المالية والإدارية، وتسقي النباتات، وتُصمّم وترسم الرسومات للفعاليات، وتقوم بأعمال السباكة، وتهتم بمسائل الكهرباء. وربما أكثر من أي شيء آخر، تُعرّف نفسها على أنها مربّية نحل.

 

لطالما كانت مفتونةً بالنحل وكيف أنها تُعدّ جزءاً لا يتجزأ مع نظامنا البيئي. قبل أن تصبح مربّية نحل - منذ قرابة عشر سنوات - درسَت أنماط وسلوك النحل: كيف يتغذّون، وكيف يغطّون أنفسهم بحبوب اللّقاح، وعملية نقل حبوب لقاح الرّحيق إلى الخلايا. أخبرتنا الأخت ليا أن الرحيق يُخزَّن ويُخلَط مع الإنزيمات في أحشاء النحل، ثم يُجفف في النهاية ليصبح عسلاً.

 

في ورشتها الواقعة بالقرب من الدير، في منزلٍ حجري متواضع من طابق أرضي محاط بأشجار العنب، تتوزَّع ملصقات وتقويمات ولوحات للنحل لا تُحصى في كل مكان تنظر إليه. كانت الكتب مصفوفة فوق أرفف خشبية داكنة اللّون في الغرفة وكان معظمها، على نحو غير مفاجئ، تتحدّث عن النحل وتربية النحل. لاحظنا بعد فترةٍ وجيزةٍ أن بعض الكتب أُلِّفت بالفعل على يد الأخت ليا نفسها. أحدهما يحمل عنوان "The Sister and The Bee"، والآخر "Got Celiac? Me Too."

 

        "لحظة. أتقصدين أنكِ مؤلِّفة كتب أيضاً؟"

        ضحكت قائلةً: "أعتقد ذلك."

 

إحدى هذه الكتب هو عبارةٌ عن كتاب أطفال ذو رسوم متحركة جميلة يتحدّث عن مرض الاضطرابات الهضمية. عندما كانت ليا صغيرة، كانت تعاني من مشاكل في الجهاز الهضمي ولم يفهم أحد ما السبب وراء هذه المشكلة. "كنت أكره الطعام. لم أستطع النظر إليه." يتتبّع كتابها المصوَّر قصّة حياة طفل صغير أدركَ أخيراً بمساعدة جدّه السبب وراء معاناته المستمرة. الغولتين. "هذا الطفل الصغير هو أنا،" أشارت إلى الجسد النحيف ذو الشعر البني المجعَّد. "لقد كتبت هذا الكتاب كي يفهم الآخرون آثار هذا المرض وكيف يمكن التخفيف من حدّته." عندما أعطتنا عبوتَين من عسلها الذهبي اللّون، ضحكت قائلةً أن العسل خالي من الغلوتين لحسن الحظ. يبدأ كتابها الثاني المعنوَن "The Sister and The Bee" بالعبارة التالية: "ذات مرّة، في ديرٍ بعيد، بعيد، عاشت راهبة كسولة وغير منظّمة تُدعى الأخت ليا."

 

***

 

اليوم، تُشرف الأخت ليا على 55 خلية نحل على مساحة من الأرض فوق الدير. سمَّت خلايا النحل الخاصة بها تيمُّناً بأشخاص مُهمّين في حياتها - سواء أحياء أو أموات. قالت: "ترتبط حياتي ارتباطاً جوهرياً بهذه النحلات، ويرتبط النحل ارتباطاً جوهرياً بكل شيء من حولنا. إن الأمر شديد الروحانية. جميع الحيوانات والبشر يعتمدون على عملية التلقيح."

 

تشعر الأخت ليا بأنها أكثر اتصالاً بالعالم من حولها عندما تكون في الطبيعة مع نحلاتها. إنها ترسم الكثير من أوجه التشابه بين الدير وخلية النحل. أكثر ما يُدهشها هو هذه الشبكة الجماعية، وكيف أن الأدوار التي تلعبها النحلات والراهبات كلها مترابطة بشكلٍ جوهري وتصب في مصلحة المجتمع. كما أشارت إلى أن الراهبات في الدير ينتخبن رئيساً مرّةً واحدةً كل ثلاث سنوات في حين يكون للنحل ملكة واحدة لنفس المدّة الزمنية. وفي النهاية، أن تكوني راهبة أو نحلة "صالحة" يعني أن تعيشي حياة الحشمة والعبودية والتواضع. "إذا راقبت النحل، فستُدرك كيف تتمتّع كل نحلة بهدفٍ محدّد. ثمة الكثير من الهيكلية والتنظيم في عالم النحل. وفي الوقت نفسه، يُشاركون كل شيء مع الجميع - العسل يكون للمجتمع بأسره. وينطبق الأمر نفسه في الدير. كل ما نفعله هو من أجل بعضنا البعض، وفي سبيل الله."

 

تستيقظ الأخت ليا قرابة السّاعة 6 صباحاً، وبحلول السّاعة 7:30 صباحاً، تكون قد أنهت - مع 22 راهبة أخرى - صلاتها الصباحية. ومن بعد ذلك، تُسنَد إلى كل راهبة مهمّة معيّنة للقيام بها. قالت: "نحن نكمل بعضنا البعض." فقط بعد أن تُنهي مهامها كراهبة، تزور الأخت ليا نحلاتها القيِّمة. تتفقّد الأخت ليا خلايا النحل بشكلٍ أسبوعي. فهي تتأكَّد من نمو مستعمرة النحل، ومن وضع ملكة النحل للبيض. تُشرف على النحلات العاملة للتأكُّد من أنها تبني مخزون العسل الخاص بها.

alt text
ليا، دير القديسة رفقا، 23.05.22. الصورة: غبريال فرنيني

بين زياراتها، تستمرّ في التعرُّف على تربية النحل وحيَلها، والتي أخبرتنا أنه فنٌّ متطوِّر. "في كل زيارةٍ للنحل، أتعلّم شيئاً جديداً. أن تكون مربي نحل يعني أن تظلّ مرناً ويقظاً. أي تغيير، سواء في أحوال الطقس أو أي شيء آخر، يمكن أن يؤثّر على النحل." إن فهم النحل بشكلٍ أفضل يعني فهم المناظر الطبيعية والمناخ الذي نعيش فيه. يتطلّب ذلك التعرُّف على الأمراض والآفات المحلّية وأنماط الطقس ومعدلات النجاة. "عندما تكون مربياً للنحل، يزداد انتباهك لكل شيء."

 

من المؤكَّد أن فنّ تربية النحل هو محلّي، ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخصائص الجغرافية للمنطقة. ولكن في لبنان، لطالما هيمَن الذكور على قطاع تربية النحل، وهو ما ذكّرتنا الأخت ليا بأنه مثير للسخرية نظراً لمدى هيمنة الإناث على عالم النحل. عندما انضمّت الأخت ليا إلى مجموعة على تطبيق واتساب مكوَّنة من 50 عضواً لمربّي النحل في لبنان للتنسيق وتبادل المعرفة مع بعضهم البعض، فوجئَت بالعثور على امرأة واحدة فقط في المجموعة. "أنا فعلاً لا أفكّر بنوعي الاجتماعي. بالنسبة لي، المرأة قادرة على فعل أي شيء. هي تحتاج فقط إلى الشعور بالرغبة حيال القيام بالأمر، ثم تحتاج بعد ذلك إلى الأخذ بزمام الأمور." في نهاية المطاف، يتّجه عددٌ أكبر من النساء في لبنان إلى تربية النحل كمصدر لتوفير الدخل، كما أن فكرة تربية النحل كصناعة مقتصرة على الرجال آخذة في التغيُّر بسرعة.

alt text
ليا، دير القديسة رفقا، 23.05.22. الصورة: غبريال فرنيني

بعد جولتنا في الدير، ذهبنا لزيارة خلايا النحل، حيث كانت الشمس تحوم على ارتفاعٍ منخفضٍ. كان الطريق مليئاً بالمطبّات، حتى في سيارة الدفع الرباعي من طراز "لادا" الخاصة بالأخت ليا، وقد أخرجنا رؤوسنا من النافذة لاستنشاق الهواء المنعش. قبل أن نخرج، غطّينا وجوهنا بمعدّات تربية النحل التي أعارتها لنا. ثم فتحت الأخت ليا خلايا النحل لتُعرّفنا على نحلاتها، وحلّقت الأخيرة حول ذراعيها مثل سُحب الدخان. طلبت منّا أن نقترب، وأكدّت لنا أن النحلات حسنة السلوك اليوم.

 

وقالت: "مع النحل أستطيع نسيان البؤس الذي نشعر به في هذا البلد." غالباً ما تفكر في مقدار المعاناة في لبنان، ومدى الألم الذي اضطرّت مجتمعاته إلى تحمّله خلال العامين الماضيين، والعلاج الروحي المطلوب في البلاد. عندما سألناها كيف أثّرت الأزمة على تربية النحل، سردت عدداً من المشكلات: تضاعف سعر معدّات تربية النحل بمعدّل أربع مرات، وانخفاض بيع العسل. حتى عدد الأشخاص الذين يقودون سياراتهم إلى الدير انخفض بشكلٍ كبير بسبب أزمة الوقود. "يحتاج مربّو النحل إلى الدعم أكثر من أي وقتٍ مضى، ولاسيما أولئك الذين يحاولون دخول هذا المجال."

 

ومع ذلك لا يمكنها تخيُّل العالم بدون نحلاتها. بالنسبة لها، إذا كان بإمكان الآلاف والآلاف من النحلات العيش معاً بسلام، فربما يمكننا نحن البشر القيام بذلك أيضاً. على الرغم من الوضع، فهي تريد الاستمرار في تنمية مستعمرتها. وعلى وجه التحديد، تريد العمل على استخدام حبوب اللقاح والعِكبِر للأغراض الطبية، كما أنها تريد البدء بإنتاج المزيد من الصابون والشموع المصنوعة من شمع عسل النحل.

 

عندما وصلنا إلى الدير، كانت الشمس قد غابت، وسماء اللّيل لوّنت كل شيء باللّون الأزرق الداكن. لقد أثنينا على مهاراتها في القيادة بعد أن خرجنا من سيارة اللّادا الخاصة بها. أخبرتنا أنها تحب السيارات وأنه في عالمٍ مختلف، ربما كانت ستعمل كميكانيكية سيارات في مرآب لتصليح السيارات. "أنا أحبُّ تصليح الأشياء المُعطَّلة."

alt text
ليا، دير القديسة رفقا، 23.05.22. الصورة: غبريال فرنيني

*هذا المقال هو الأول من بين أربع مقالات صحفية مصورة يتم سردها من منظور مجموعة من النساء العاملات في سلاسل القيمة الزراعية والغذائية في شمال لبنان. تروي المقالات كيف يتعاملن مع التحديات الجديدة المنبثقة من الأزمات المستجدة ومع الفرص المحتملة التي نتجت عن هذه التحديات، وكيف تبدّل هذه التغييرات، على نحو تدريجي، المعايير المتعلّقة بالنوع الاجتماعي في المجتمعات الريفية.