من موقعي هذا: "نحن، النساء ذوات الإعاقة، لنا الحق في العيش ونستحق الحصول على الفرص المتكافئة"

التاريخ:

في كل يوم، في الثامنة صباحًا، تفوح رائحة المعجنات الطازجة في حي مار مخايل في بيروت، لبنان، وعند تتّبعها  نصل إلى "المطبخ الدامج"، وهو مطبخ مجتمعي تقوده النساء، حيث ينشغل 60 امرأة من ذوات الإعاقة بإعداد وجبات ساخنة للعائلات الأكثر حاجة والتي تقيم في المجتمع المحلي.
مارينا خموني، 24 عاماً، واحدة من النساء اللواتي يعملن في خط الإنتاج ويقمن بملس الزعتر فوق المعجنات المُعَدّة حديثًا. مارينا مصابة بعيب خلقي في الأنبوب العصبي يسمّى طبّياً السنسنة المشقوقة. اكتشفت إعاقة مارينا عند الولادة ليقرّر والداها إدخالها طفلةً دار أيتام راهبات الأم تريزا في الفنار، على بعد 10.8 كلم من بيروت. على رغم التحديات التي واجهتها مارينا في حياتها، ما زالت تتمسك بالتفاؤل بالمستقبل. من خلال عملها في "المطبخ الدامج"، استعادت مارينا شعورها بقيمتها الشخصيّة كما استعادت الزخم للدفاع عن حقوق النساء والأشخاص ذوي الإعاقة.

Marina Khamouny, 24, at Access Kitchen, a UN Women-funded community kitchen in Mar Mikhael, Beirut. Photo: UN Women/Lauren Rooney
مارينا خموني، 24 عاماً، في "المطبخ الدامج"، مطبخ مجتمعي تموّله هيئة الأمم المتحدة للمرأة في مار مخايل، بيروت. الصورة: هيئة الأمم المتحدة للمرأة \ لورين روني

"في يوم ولادتي، أُدخلتُ دار الأيتام. قضيتُ هناك طفولتي إلى أن بلغت 17 عاماً، فكان لا بدّ في هذه المرحلة من نقلي إلى مأوى للأشخاص ذوي الإعاقة، من كبار السن. كانت هذه الخطوة صعبة بالنسبة لي، ذلك اني كنت محاطة بأشخاص أكبر مني سناً، ولم يعد بإمكاني متابعة دراستي. بدأت حينها أعاني اكتئابًا حادًّا، وبعد ثلاث سنوات مُنِحت إذنًا بمغادرة المأوى.

بعد مغادرتي المأوى، التحقت بمعهد "الكفاءات"، وهو مؤسّسة تعليميّة للأشخاص ذوي الإعاقة، حيث تابعتُ دراسة العمارة الداخليّة. إن تواجدي حول أشخاص من عمري وتعلّم مهارات جديدة جعلاني أشعر بأنني مُنتِجة وساهم ذلك بتحسين صحّتي النفسية.

على رغم بلوغي هذه السن، كان ولم يزل لدي أسئلة كثيرة حول من أكون والحياة التي كان يمكن أن أعيشها لو بَقيَت عائلتي إلى جانبي. عندما كنت أصغر سناً، إعتدتُ أن أسأل نفسي: "لما أنا بالتحديد؟ لما انا هنا؟ لماذا لا أعيش مع والديّ؟"

في قرارة نفسي، كنت أعلم أن والديّ لم يرقهما أن أكون كما كنتُ بي، لكنني كنت أتطلّع لبناء علاقة معهما. بعد استعادتي بعض الثقة، قررت أن أطرق بابهما، على أمل أن يَرَيا الشخص الذي صرتُ عليه الآن، وأن يُدركا أنني إنسانة طبيعية أيضًا، وأن يحبّاني. لكن ردّة فعلهما كانت معاكِسةً تماماً.

لكنني لم أستسلم. بدأت البحث عن وظائف لأصير مستقلة. اتصلت بالاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً، وحصلت على فرصة أن أصبح مساعدة شيف في "المطبخ الدامج".

نشأت في دار الأيتام ثم انتقلت إلى المأوى، فلم تُتَح لي الفرصة مطلقاً لممارسة الطهو أو استخدام السكين حتى. دوما، كان أحدهم يجلب لي الطعام. كانت فكرة الطهو مخيفة، لكنني قررت أن أجرّب. أعمل بجدّ في المطبخ، وأنا مكلفة إعداد وجبات ساخنة يومية لأفراد المجتمع من الفئات الأكثر حاجة. شجعتني الشيف وزميلاتي على العمل وعلى تعلّم أشياء جديدة. كلما أخبرتهن أنني لا أستطيع القيام بالكثير، كمثل أن أُتبّل طبقاً ساخناً أو أن أحضّر أوراق العنب المحشوة، ألهَمنَني ودفعنني للمحاولة. يمكنني الآن تحضير طبق الكبّة! قد لا يعتبر هذا إنجازًا لمعظم الناس، لكنه إنجاز بالنسبة لي.

مرت ثمانية أشهر، وما زلت أتطلع يوميًّا إلى قدومي إلى المطبخ المجتمعي. لم أتغيّب يومًا. لقد أنشأنا هذه البيئة الشاملة والآمنة التي تناسبنا جميعاً. فتحوّل الأمر من وظيفةٍ إلى شعورنا وكأننا في منزلنا. أصبحتُ أكثر ثقة واستقلالية ورضا بالحياة. ما زلت أتذكّر تسارُع دقات قلبي عندما حصلت على راتبي الأول، وأوّل شيء فعلته به كان البحث عن شقة حيث يمكنني الطهو والتنظيف والعناية بنفسي.

المجتمع يعاملنا، نحن النساء والأشخاص ذوي الإعاقة، وكأننا شيء بغيض أو خطيئة مخزية. والحال أنني صدّقت هذه الفكرة لفترة طويلة واعتقدت أنني لا أستطيع أن أرقى إلى أي شيء. إن العمل ضمن "المطبخ الدامج" أثبت لي وللآخرين أننا على خطأ.

الآن، لم أعد أسمح لأي شخص بأن يجعلني أشعر بأنني أقلّ من امرأة ناجحة. أقول لكل من يعيش حياة مماثلة لحياتي أن يتجاهل أي شخص يخبرنا أننا لا ننتمي إلى المجتمع. لنا الحق في العيش ونستحق الحصول على الفرص المتكافئة."


تتم إدارة "المطبخ الدامج"" في إطار مشروع "تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة المراعية للنوع الاجتماعي من خلال دعم مشاركة المرأة في سوق العمل"، بقيادة هيئة الأمم المتحدة للمرأة وبالشراكة مع الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً وبدعم سخي من حكومة اليابان.

مارينا هي واحدة من 140 امرأة يعملن في مطابخ مجتمعية أٌنشأت في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع، ويقدمن وجبات ساخنة للمجتمعات المحرومة. بتمويل من حكومة اليابان، تهدف المطابخ المجتمعية إلى الحفاظ على وجود المرأة في سوق العمل وتعزيزه من خلال تلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الناشئة والحد من انعدام الأمن الغذائي للنساء المهمشات، مع التركيز على الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن.