حركة النزوح تتّجه نحو الشمال في ظلّ اشتداد النزاع في جنوب لبنان
التاريخ:
في ظلّ التصاعد المستمرّ للنزاع في جنوب لبنان، تستمرّ الغارات الجويّة الإسرائيليّة التي تستهدف العاصمة بيروت والجنوب وأجزاءً أخرى من البلاد، فتؤدّي إلى نزوح أعداد متزايدة من الناس وتحويل تدفّق الهجرة من المدن ومراكز الإيواء في جنوب لبنان نحو شماله الذي لا يُعتبر مؤهّلًا لمثل هذا النزوح.
صحيحٌ أنّ البيانات ما زالت قليلةً نسبيًّا وتتغيّر على أساسٍ يومي، غير أنّه وفقًا لمصفوفة تتبّع النزوح الصادرة عن المنظّمة الدولية للهجرة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، نزح ما لا يقلّ عن 779613 شخصًا داخل لبنان حتى 17 تشرين الأوّل\أكتوبر 2024 (52% منهم نساء و48% منهم رجال) إلى جميع الأقضية الـ26 في أرجاء لبنان.
في هذا الإطار، أوضح السيد محمد يونس، المدير التنفيذي لجمعية مساواة، قائلًا: " كان تدفّق النازحين والنازحات إلى الشمال أمرًا غير متوقَّع وفاق قدراتنا."
وأضاف: "لقد صادفنا الكثير من المشاهد المروّعة، حيث أُجبر الناس على المبيت في الشوارع خلال الأيّام الأولى من نزوحهم، إلى أن فتحت المدارس أبوابها لهم، رغم أنّها ما زالت غير مستعدّة ومؤهّلة لاستقبال النازحين والنازحات وتفتقر إلى اللوازم الأساسيّة. وصحيحٌ أنّنا نقدّم الدعم بالتعاون مع المنظّمات الأخرى، غير أنّ ذلك يبقى غير كافٍ، فالوضع مأساوي، وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث التي تستضيف فيها طرابلس ومحافظة الشمال هذا العدد الهائل من النازحين والنازحات داخليًّا."
والجدير بالذكر أنّ جمعية مساواة هي شريك محلي لهيئة الأمم المتّحدة للمرأة في إطار صندوق المرأة للسلام والعمل الإنساني، وتقدّم الدعم للنساء النازحات داخليًا في مراكز إيواء مختلفة في طرابلس في شمال لبنان.
لو كان الوضع طبيعياً، يُفترض بفاطمة البالغة من العمر 17 عامًا أن ترتاد مدرستها في الزرارية، جنوب لبنان، لكنّها الآن تقيم في مجمّع مدرسي مهجور يُستخدم كمركز إيواء للنازحين والنازحات في البداوي، شمال لبنان.
وتقول: "في بادئ الأمر، بدأ القصف بالقرب من منزلنا... فغادرنا مع أقاربنا، من دون أن نعرف إلى أين نذهب."
وأضافت: "عجزت البلديّة عن تأمين مسكنٍ لنا، فانتهى بنا المطاف في مراكز الإيواء. في البداية، خطّطنا للانتقال إلى الضاحية الجنوبيّة، لكن ما إن وصلنا حتّى تعرّضت المنطقة للقصف مرة أخرى، ما أجبرنا على الفرار إلى طرابلس."
وتابعت كلامها قائلةً: "الظروف صعبة، ويصعب التكيّف والعيش في مركز الإيواء، وشكّلت التفاصيل اليوميّة تحدّيًا بالنسبة إلينا، حتّى دخول الحمّام. صحيحٌ أنّ المنظمات تزوّدنا بالفوط الصحيّة، ولكن يتعيّن علينا شراء كلّ اللوازم الباقية بأنفسنا. بصراحة، أفضّل العودة إلى منزلي، ولو سُوّي نصف قريتي بالأرض."
في المجمّع نفسه، تقطن امرأة نازحة في الـ51 من العمر من المسكن الشعبي، وتستحضر بمرارة ذكريات الأحداث التي أتت بها من صور إلى هذا المركز.
وتقول في هذا السياق: "القصف والإرهاب والخوف والتنقّل من مكان إلى آخر... لقد عشنا كل ذلك. احترقت سيّارتنا، لكنّ الناس ساعدونا في الوصول إلى المدرسة في طرابلس. لم نجد مكانًا لنا في منطقة جبيل، ورأينا الناس يفترشون الأرض، فشعرنا وكأنّنا نموت موتًا بطيئًا ونحن في حالة اليقظة، ولم تتوفّر أيّ مساعدات هناك. لذلك، أتيت إلى هنا، وانضممت إلى بعضٍ من أفراد عائلتي الذين فروا إلى الشمال. … ما اختبرته في صور، لا أتمنّاه لأيّ امرأة، ولا ينبغي لأيّ امرأة أن تختبره."
في المدرسة والمركز نفسه في البداوي، تنهمر دموع هلا خشاب البالغة من العمر 24 عامًا وهي تتذكّر إجلاءها من الشياح إلى طرابلس.
وتقول: "لقد قصفوا مواقع في الضاحية الجنوبية على مقربة من منزلي، فانتقلتُ إلى مكانٍ آخر في الجنوب، حيث مكثنا لمدّة يومَين قبل أن أنضمّ إلى عائلة زوجي، التي فرّت إلى هنا. ... تدمّرت صحّتنا النفسية. ولا أنفكّ أبكي وأبكي، حتى الآن وأنا أتحدّث إليك."
رغم امتنانها لأنّها وصلت إلى مكان آمن في الوقت الحاضر، تقول هلا إنّ الوضع شديد الصعوبة.
وتوضّح قائلةً: "إنّ الظروف التي نمرّ بها صعبة للغاية، ومع ذلك، يعتني بنا الناس هنا ويحاولون توفير اللوازم الأساسيّة لنا. وبطبيعة الحال، ثمّة نواقص كبيرة في اللوازم. نضطر أحيانًا إلى شراء الطعام، والأهمّ، شراء لوازم النظافة النسائية. كما أنّ الفوط الصحيّة المقدَّمَة إلينا إمّا منخفضة الجودة إمّا غير كافية من حيث الكمية."
بالنسبة إلى زينب البالغة من العمر 33 عامًا، أجبر القصف المتكرّر عائلتها على الفرار من ثلاثة مواقع مختلفة.
وتقول: "ذات يوم، قصفوا الحي الذي نعيش فيه، فحملت أطفالي وذهبنا إلى منزل أهل زوجي في منطقة أخرى، معتقدين أنه أكثر أمانًا. لكن تلك المنطقة تعرّضت للقصف أيضًا، فاضطررنا إلى الفرار إلى صيدا. … بقينا على الطريق ساعات قبل أن نصل إلى بيروت، على أمل استئجار مكان في المدينة. وأثناء بحثنا، وقعت غارة في الغبيري. وأدركنا أنّ بيروت ليست آمنة أيضًا، لذلك قرّرنا الذهاب إلى طرابلس."
تقيم زينب في مركز الإيواء المؤقّت الذي افتُتِحَ في معهد دير عمار الفنّي الرسمي منذ أسبوع.
أضافت قائلةً: "رغم أنّ الناس هنا يعاملوننا معاملة حسنة، لا نشعر بالراحة التي نتنعّم بها في منازلنا. اضطررت إلى جعل ابنتي تستحمّ بالمياه الباردة. وأواجه صعوبة في الحفاظ على نظافتي الشخصيّة، فلا نستطيع الاستحمام متى نشاء. علاوةً على ذلك، ما من وسائد لننام عليها، لذلك نكدّس ملابسنا وننام عليها. والأمر الوحيد الإيجابي هو أنّه لديّ غرفة خاصّة مع زوجي وأطفالي الأربعة لا يشاركنا بها شخص آخر".
عائلة زينب واحدة من القليلات المحظوظات ذلك إنّ عائلات أخرى تتشارك الغرف في ظروفٍ صعبة. عَيدة حسين وحيد، امرأة فلسطينيّة في الـ41 من العمر، نزحت مع بناتها الخمسة من البرغلية في صور إلى معهد دير عمار الفني الرسمي في طرابلس، حيث تتقاسم غرفة مع ثلاث عائلات أخرى.
وتقول في هذا السياق: "نادرًا ما أشعر بالراحة لأنّ الخصوصيّة معدومة في مثل هذه البيئة. هناك شابات محجّبات بيننا، ومع ذلك نتقاسم الغرفة نفسها مع الرجال. الوضع غير مريح إطلاقًا. أواجه صعوبة كلّما أردت الاستحمام، أو تمشيط شعري، أو دخول الحمّام، أو تغيير ملابسي. لا بدّ من التوصّل إلى حلّ يعيدنا إلى منازلنا، لكن إلى ذلك الحين، نحتاج إلى أفرشة ومقاعد للجلوس وتدفئة وملابس للأطفال. ولكن لا يمكن نفي المساعدات الكثيرة التي نتلقّاها، فالجميع يحاول مساعدتنا بقدر المستطاع. الوضع ليس مثاليًا، لكنّه أفضل بكثير من النوم في الشوارع، بدون مأوى وسقفٍ فوق رؤوسنا."