على لسان سلمى نحلة: « لأني الطبيبة الوحيدة في المستشفى، كان عليّ أن أبقى قوية وأن أكون قدوة للنساء من حولي »
التاريخ:
في قلب الجنوب اللبناني، حيث الصراعات والأزمات الإنسانية المستمرة منذ عقود، وجدت الدكتورة سلمى نحلة، طبيبة الأطفال والطوارئ، البالغة من العمر 66 عامًا من النبطية، نفسها مرة أخرى في قلب الصراع. في خضم الفوضى، قدمت الدكتورة سلمى رعايتها الطبية في مستشفى النجدة الشعبية اللبنانية في حبوش. وبدافع من التزامها الإنساني العميق، أصبح تقديم الرعاية الطبية بالنسبة لها رمزاً قوياً للأمل والصمود.
« بالنسبة لي، الإنسانية هي أغلى ما نملك. وكطبيبة، كانت تجربتي في العمل على الخطوط الأمامية في الجنوب خلال الصراع الأخير مليئة بالتحديات والصعاب. وانطلاقًا من رغبتي في مساعدة الآخرين، كرّستُ نفسي لتقديم الرعاية والدعم للجرحى، وبذلتُ كل طاقتي في سبيل تعافيهم. لقد شاهدت الآلام والعذابات الشديدة التي يعاني منها أولئك الذين علقوا وسط الصراع، مما عزز إيماني بالأهمية البالغة للعمل الطبي والإنساني في أوقات الحروب.

بدأت رحلتي مع العمل الإنساني والتطوعي عندما كان عمري 14 عامًا فقط، حين انضممت إلى مركز التطوع التابع لجمعية النجدة الشعبية اللبناية. شغفي بمساعدة الآخرين دفع إدارة المستشفى إلى التكفل بدراستي الطبية في الخارج. عند عودتي إلى لبنان، تخصصت في طب الأطفال وطب الطوارئ. وعلى مدار أكثر من 30 عامًا، قدمت الرعاية الشاملة لمجتمعي، فنلت احترام وقبول جميع شرائح المجتمع.
قبل بدء المعارك، كانت حياتي المهنية تسير بشكل منظم ومرتب. كنت أزور المرضى بشكل دوري في المستشفيات والعيادات. لكن عندما بدأت المعارك، تغيرت حياتي تمامًا. وجدنا أنفسنا في حالة طوارئ لا تبدو لها نهاية، وينعدم فيها التنظيم والشعور بالأمان.
أمضيتُ 68 يومًا متتاليًا [23 سبتمبر - 27 نوفمبر 2024] في قسم الطوارئ، حيث عملت بلا كلل ليلاً ونهارًا، دون أن أحصل على استراحة واحدة. لقد واجهت ضغوطًا هائلة بسبب تدفق المصابين/ات، خاصةً خلال الأيام الأولى من المعارك، حيث كانت ظروف الحرب غير مسبوقة، وكانت الإصابات خطيرة ومفجعة. كان العديد من الجرحى من أقاربي وجيراني وأصدقائي، مما جعل التجربة أكثر إيلاماً.
أما الظروف في المستشفى فكانت قاتمة. كثيرًا ما كنا نعاين المرضى في الممرات، أو جلوساً على الكراسي حتى، عند المدخل أو في ملاجئ رطبة. كنا نصبر ساعات طويلة دون طعام، وننام في الممرات ونتعامل مع نقص الوقود. وكان علينا أن نتكيف مع الأوضاع القاسية، ذلك ان المياه الساخنة كانت شحيحة، فاضطررنا إلى الاستحمام بالماء البارد، حتى في الطقس البارد.

إن قناعاتي هي الركيزة التي أستند إليها، ومصدر إلهامي في دعم شعبي والدفاع عن أرضي. ولم يكن هذا التفاني من دون ثمن شخصي. اضطررت إلى إرسال ابنتي وأحفادي بعيدًا، حفاظًا على سلامتهم، على أمل أن يعودوا يومًا ما، عندما يعود الاستقرار إلى المنطقة. كان بإمكاني أن أغادر، لكن ذلك لم يكن خياراً بالنسبة لي.
ولأني الطبيبة الوحيدة في المستشفى، كان عليّ أن أبقى قوية، وأن أكون قدوة للنساء من حولي. أردتُ منهن أن يشعرن بالقوة، وأن لا يستسلمن للخوف أو العجز، بل أن تكون لديهن الثقة الكاملة بأنفسهن.
ومع كل ما عانيناه في الجنوب، أدركنا ضرورة الاستعداد لمواجهة الأسوأ، ووضع استراتيجيات فعالة للتعامل مع أي تحديات قد تنشأ. كان علينا أن نبقى أقوياء وقويات ومتفائلين ومتفائلات، لمواصلة مهمتنا والتغلب على الشدائد.
لطالما كان العمل الإنساني مصدر راحتي النفسية وإيماني. شعارنا في المستشفى هو ”معًا من أجل الإنسانية“، وهو الشعار الذي ألهم الرجال والنساء على حد سواء للثبات في أداء الواجب.
لقد تعبنا كثيرًا، وأنهكتنا سنوات المعاناة والصراعات، ومع ذلك ما زلنا متمسكين ومتمسكات بالأمل في مستقبل أكثر إشراقًا. أتمنى أن يعمّ السلام جميع أنحاء لبنان، خصوصاً في الجنوب، لكي تنتهي معاناتنا المستمرة، ونتمكن من إعادة البناء والتعافي معًا. »