من موقعي هذا: "من حقّنا أن نعلَم مصيرَ أحبّائِنا الّذين فُقدوا"

التاريخ:

Illustration: Lauren Rooney

وُلِدَت ندى* البالغة من العمر 58 عامًا في لبنان في العام 1963 وهي فلسطينيّة وأمٌّ لولدَين. فُقد زوجها خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ومنذ ذلك الحين، تعيش ندى معاناةً كبيرة نفسيّاً وجسدياً وقانونياً، بسبب غيابه. في عام 2020، سعت ندى إلى الحصول على دعمٍ نفسيّ من خلال  "ريستارت" وهي منظمة لبنانيّة غير حكوميّة تتلقّى الدعم من "هيئة الأمم المتّحدة للمرأة". تمكّن الاختصاصيّون/ات في هذه المنظّمة من مساعدتها على التعامل مع ماضيها وعلى التحلّي ببعض الأمل والتطلّع للمستقبل.

"في عام 1982، وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا، كنت مع زوجي وابننا محمود البالغ من العمر أربعة أشهر في منزل ذوي زوجي في مخيّم صبرا للّاجئين. فجأةً، راحت مجموعةٌ من الرجال تطلب من الناس عبر مكبّراتِ الصوت مغادرةَ منازلهم ليفتّشوها بحثًا عن عناصر تنتمي إلى إحدى الميليشيات. اصطحبونا إلى خارج المنزل، إلى منطقةٍ تبعُد عنه بضع دقائق. حدث كل هذا بسرعة لكنّني أتذكّر سيّارة كانت تتّجه نحونا مسرعةً قبل أن تتوقف فجأةً. في غضون ثوانٍ، وُضِعَ زوجي في السيّارة وأُخِذَ بعيدًا. وكان ذلك اليوم الأخير الذي أبصرت فيه زوجي.

كنت مصدومةً تمامًا. وتتالت الأحداث لكنّها مشوّشة في ذهني. انتشرت الشائعات والهمسات في شأن اختفائه. حدث ذلك مباشرةً في أعقاب مجزرة صبرا وشاتيلا، فظنّ الناس أنّ اختطافه مرتبط بذلك الحدث. وأخبَرَنا البعض أنّ الخاطفين ينتمون إلى جماعةٍ معيّنة في حين زعم آخرون أنّهم ينتمون إلى جماعةٍ أخرى.

في البداية، أَمَلت أن يعود بسرعة. لكن الأيّام انقضت، وسرعان ما صارت الأيّام أسابيع، والأسابيع سنوات، وباتت السنوات بمثابة عمر تقريبًا.

وعلى مدى 22 عامًا، قَصَدتُ مركز الشرطة، كل ستّة أشهر، لتبليغهم أنّ زوجي لا يزال مفقودًا وكنت أحصل منهم على ورقة تؤكّد ذلك. أتاح لي هذا الإجراء المُضني الحفاظَ على حياة طفلي إذ سمح لنا بالحصول على مساعدةٍ غذائيّة لا تُقَدَّم سوى للعائلات الّتي تختبر حالاتٍ مماثلة. توقّفت هذه المساعدة منذ عشر سنوات عندما بلغ ولداي السنّ الذي يتيح لهما البدء بالعمل.

لم أتزوّج مجدّدًا، وتولّيت تربية طفلين بنفسي. لم يتعرّف طفلاي على والدهما البتة. عندما كبرا، ظلّا يسألاني باستمرارٍ: "إن للجميع أباً فلماذا هذه ليست حالنا؟" مع تقدّمهما في السن، أخبرتهما عن حقيقة اختفائه. ولكنّني لم أتمكّن من الإجابة على أسئلتهما حول مكان تواجده الآن ولماذا لا يرقد في قبر.

كان وقع اختطاف زوجي كبيراً علينا جميعًا. لقد عانيت الاكتئاب وتقلّب المزاج، ممّا أدى إلى مشاكل طبيّة أخرى مثل ارتفاع ضغط الدم. ومنذ بضع سنوات، بدأت في تناول مضادات الاكتئاب.

في العام الماضي، تعرّفتُ على مركز  "ريستارت" الذي يقدّم الدعم النفسيّ  لمن يحتاجه. لم أكن حينها في وضعٍ جيّدٍ نفسيًّا لذلك سجّلت اسمي وبدأت بحضور جلساتٍ فرديّةٍ مع أحد الاختصاصيّين/ات. حضرتُ ما لا يقلّ عن 20 جلسة على مدار عامٍ واحد. تحدّثنا عن كل ما كان يوتّرني، بدءاً من ماضيّ الشخصي المؤلم وصولاً إلى جائحة كوفيد-19 والأزمة الاقتصاديّة. وللمرّة الأولى، تمكّنت من التحدّث عن الأمور الّتي طالما طاردتني طيلة حياتي. فقلبت هذه الجلسات حياتي رأسًا على عقب.

على مرّ السّنين، التقَيت بعددٍ كبيرٍ من النساء اللّواتي عُشنَ تجاربَ مماثلة. انضمَّ عددٌ منّا إلى لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان1. نلتقي بانتظامٍ لنبقي قضيّة المخطوفين والمفقودين حيّة.

من حقّنا الكشف عن مصير أحبّائنا. إن الموتى يرقدون مع الموتى، يمكننا أن نحزن عليهم ونزور قبورهم. ولكنّ المفقودين فُقِدوا بطريقةٍ ما ولا نزال نبحث عنهم. زوجي مفقودٌ منذ العام 1982 لكنّنا لم ننسه، فهذا مستحيلٌ."

* ملاحظة: جرى تبديل الاسم حفاظًا على خصوصيّة المرأة المعنيّة وهويتها.

ندى* واحدة من أصل 129 امرأة تلقَّين جلسات دعمٍ نفسيّ واجتماعيّ مقدَّمة من مركز ريستارت  بدعمٍ من هيئة الأمم المتّحدة للمرأة وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي ومفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، وذلك في إطار مشروع "التعامل مع الماضي: ذاكرة للمستقبل". يموّل بسخاء من "صندوق بناء السلام التابع للأمين العام للأمم المتحدة" .

1 لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان عبارة عن تجمّع لعائلات المخطوفين والمخفييّن قسرًا إبان الحرب الأهليّة اللبنانيّة. بدأت اللّجنة عملها في عام 1982.