في المطبخ المجتمعي، النساء ذوات الإعاقة المتضرّرات من انفجار بيروت يستعدن الثقة بقيمتهنّ ويقدّمنَ يد العون لغيرهن
التاريخ:
في تمام الساعة 6:08 من مساء يوم 4 آب 2020، وقع انفجاران في مرفأ بيروت أسفرا عن إصابات وأضرار جسيمة، وخلّفا تأثيراً بالغاً على سكان المدينة. ونظراً إلى أن النساء والفتيات اللواتي لديهن نقاط ضعف متزايدة يشكّلن جزءاً كبيراً من السكّان المتضررين والمتضررات من الانفجار، عقدت "هيئة الأمم المتحدة للمرأة" شراكة مع الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً (LUPD) لتوفير وظائف مدرّة للدخل للنساء ذوات الإعاقة وذلك عبر مبادرة "المطبخ الدامج"، وهي عبارة عن مطبخ مجتمعي تأسّس في بيروت. وتتلقّى هذه المبادرة دعماً من حكومة النمسا في إطار مشروع مشترك يحمل عنوان "سبل العيش في حالات الطوارئ للسكان المهمّشين/ات المتضررين/ات، في نطاق انفجار بيروت"، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف).
بين حنايا حيّ مار مخايل في بيروت، تتعالى الأصوات من منزل أصفر قديم. توشك عقارب الساعة على الإشارة إلى الواحدة ظهراً، وهو وقت الذروة لتناول الغداء. في تلك الأثناء، تنهي ثلاثون امرأة، جميعهنّ من ذوات الإعاقة، إعداد وجبات طعام ساخنة ليجري توصيلها إلى المجتمعات الأكثر ضعفاً المتضرّرة من انفجار بيروت. تكاتفت هذه المجموعة المكوّنة من نساء قادمات من خلفيات مختلفة في "المطبخ الدامج"، وهو مطبخ مجتمعي يديره الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً ((LUPD، ويهدف إلى طهو وجبات الطعام للأسر الضعيفة المتضرّرة من انفجار بيروت. ويُعد المطبخ مساحة مجتمعية آمنة للحوار.
حنان بظاظا في الثامنة والعشرين من عمرها، وهي ما تزال تفكّر كل يوم في انفجار مرفأ بيروت. وتقول في هذا الإطار: "ربما كان الأمر محض قدر أو سوء حظ أو مجرد مصادفة أننا كنا نتناول العشاء في أحد مطاعم منطقة الجميزة، على بُعد 2.4 كلم من مرفأ بيروت حين وقع الانفجار."
في ذلك الحين، كان شقيق حنان قد قدم من بلاد الاغتراب ليزور أسرته، والتقوا جميعاً في المطعم للاحتفال.
تضيف: "كنا نستمتع بالطعام ونضحك؛ وفجأة انهارت جدران المطعم علينا! خسرت أختي وزوجها، وكدت أن أفقد ساقي. ما زالت هذه الذكريات الأليمة تطاردني حتى يومنا هذا ".
خضعت حنان لعمليات جراحية عدّة لإنقاذ ساقها. تقول: "خلّد الانفجار بصمته فيّ وخلّف لدي إعاقة سترافقني مدى الحياة. أنا ممتنة لأنني لم أفقد ساقي، لكن لا شكّ في أنّ مواجهة المجتمع ليست أمراً سهلاً، إذ يصرخ الناس في وجهي ويطلبون مني أن أمشي بشكل طبيعي. إنه أمر مروّع."
خلق انفجار مرفأ بيروت نقاط ضعف جديدة في المناطق المتضرّرة، وزاد من سوء الأوضاع التي ترزح تحت وطأتها النساء ذوات الإعاقة وأسرهنّ. في إطار تحليل لقضايا النوع الاجتماعي أجرته هيئة الأمم المتحدة للمرأة عام 2020، تبيّن أنّ الأسر التي تعيلها نساء والتي تعيش في المناطق المتضرّرة من الانفجار كان أفرادها أكثر عرضة للمعاناة في الأقلّ من إعاقة جسدية أو عقلية مقارنةً بالأسر التي يعيلها رجال (58% مقابل 42%).
انتقلت حنان إلى بيروت بعد بضعة أشهر على انفجار 4 آب/ أغسطس، لكنها واجهت صعوبة في العثور على وظيفة. تواصل معها الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا بعد قراءة قصتها في تقارير إعلامية، وعرّفها على مشروع المطبخ المجتمعي. تقول حنان في هذا السياق: "كنت متحمّسة للغاية لأكون جزءاً من هذه المبادرة، فالطهو هوايتي وقد تأثرت كثيراً بهذا المطبخ المجتمعي الذي يمنح مثل هذه الفرصة الرائعة للنساء ذوات الإعاقة."
يصبو المشروع إلى الحدّ من تأثير الأزمات الاقتصادية وجائحة كوفيد-19 على النساء والفتيات ذوات الإعاقة، مع تعزيز مشاركتهنّ المجتمعية ودعمهنّ. تروي حنان: "في البداية، تدرّبنا على سلامة الغذاء، والتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمحاسبة، ثم بدأنا الطهو معاً".
وجدت حنان عائلة ثانية في كنف زميلاتها في فريق المطبخ المجتمعي وقد ساعدنها على تخطّي الصدمة التي تعرضت لها. وتقول: "لقد أدركت أنّ إعاقتنا تجعلنا أقوى. نحن فريدات في قدرتنا على التحلّي بالإيجابية، رغم كلّ التحديات ورغم المجتمع الذي يقلل من شأن الأشخاص ذوي الإعاقة".
رفضت كريستين مرعي البالغة من العمر 27 عاماً السماح لمرضها الوراثي وإعاقتها الذهنية أن يمنعانها من تحقيق أهدافها المهنية. وتقول: "منذ صغري، تمنّيت أن أكون مستقلة. وشعرت أني عبء على عائلتي وأحياناً على كلّ مَن حولي. وأردت أن أرفع صوتي. أردت أن يُسمع صوتي، لكنّ الآخرين، بمَن فيهم أفراد عائلتي المقربين أو أقاربي، اتّخذوا القرارات بالنيابة عني، دوماً".
يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة، بمَن فيهم النساء والفتيات، تحدّيات جمّة في حياتهم اليومية في لبنان، أبرزها القوالب النمطية والوصم الاجتماعي والتمييز. ويُعدّ تعذّر الوصول إلى أماكن العمل والأماكن العامة حجر عثرة رئيسيًا أمام النساء والفتيات ذوات الإعاقة؛ وغالباً ما يجدنَ أنفسهنّ عالقات بين براثن البطالة وانعدام الأمن الغذائي والفقر. أفادت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا أن 84% من الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في لبنان عاطلين من العمل.
عملت اعتادت كريستين العمل كمساعدة مبيعات في متجر للملابس، ثم عملت في متجر بقالة لكنها واجهت صعوبة في الحفاظ على وظيفتها. عندما وقع الانفجار، كانت تقدم رعاية منزلية بالقرب من منزلها لمريضة تسكن في برج حمود على بُعد 4.2 كيلومترات من مرفأ بيروت. تقول في هذا السياق: "دمّر الانفجار شقتنا، وتطاير زجاج النوافذ وتشقّق سقف المبنى. لكننا تمكّنا من إصلاحه، بمساعدة المنظّمات المحلية. ولحسن الحظ، لم يتأذّ أحد".
انضمّت كريستين إلى "المطبخ الدامج" إلى جانب نساء وفتيات أخريات لتساعد في إعداد ستين وجبة طعام ساخنة يومياً، توزع على العائلات المقيمة في الأحياء المهمشة المتضرّرة من انفجار مرفأ بيروت. وساعدها العمل في "المطبخ الدامج" على تحقيق الاستقلالية التي لطالما نشدتها. تقول: "لم أتوقع يوماً أن أعمل في مكان أستمتع فيه بما أفعله وأشعر بالحبّ والتقدير. والآن غدوت على دراية بحقوقي، فعلّمني العمل كيفية المطالبة بالمساواة في المعاملة. وبتّ أشعر بقيمتي".
وفي السياق نفسه، قالت ندى عزير، مديرة البرنامج لدى الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً: "يتيح توفير فرص عمل لذوي الإعاقة للاقتصاد الوطني بالاستفادة من مهاراتهم/هن ومن مشاركتهم/هن القيمة، كما يقلل من كلفة الإعاقة على المجتمع من حيث الرعاية الصحية وتعويض الإعاقة، فضلاً عن الحدّ من مشكلة الفقر."
عبر هذا المشروع، تم تمكين النساء الضعيفات اللواتي تضرّرن من الأزمات المتعددة التي يعاني منها لبنان وأصبحن قوة تغييرية في مجتمعاتهن. وها هنّ يردُدن الجميل إلى المجتمع عبر تقديم المساعدة الإنسانية للنساء الضعيفات الأخريات.
وفي سياق متّصل، قالت راتشيل دور-ويكس، ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان: "غالباً ما يتمّ تهميش النساء والفتيات ذوات الإعاقة في المجتمع ويعانين تمييزاً حاداً. قد يؤدي ذلك إلى تدهور وضعهن الاقتصادي والاجتماعي وزيادة خطر تعرضهن للعنف وسوء المعاملة. من خلال هذه المبادرة، ندعم قياديّات المجتمع من قلب مجتمعهن لتقييم وتلبية احتياجاتهن وترك بصمة استثنائية في المجتمع. ونتطلع إلى افتتاح "المطبخ الدامج" كمقهى عام ليكون بمثابة مساحة مرحّبة بالجميع، في قلب مار مخايل".